Image Not Found

علي بن داود اللواتي يكتب: التفكير العلمي كأسلوب حياة

علي بن داود اللواتي – شئون عُمانية

أصبحنا في حياتنا اليومية نستعمل أجهزة الحاسب الآلي في تحليل البيانات ورسم المنحنيات وبرمجة النماذج للتوصل إلى ما نُسميها بالقرارات العلميّة الرّصينة. وفي المختبر، صرنا نُجري التجارب بكل بساطة ونستخلص النتائج والقوانين الطبيعيّة منها بعد محاولات متكرّرة نخطئ في بعضها ونصيب في أخرى. أصبحنا كذلك نشجع على الاهتمام بالعلم ونضرب الأمثلة بعلماء اجتهدوا وكافحوا وسهروا الليالي وحازوا على جوائز عالميّة، ولكن السؤال المهم في كل هذا هو لماذا نتبع هذه الطرق تحديدا دون سواها؟ وماهو الحد الذي سنتوقف عنده من استخدام هذه الطرق في اكتساب المعرفة؟

بالمثل، عرّفتنا وسائل التواصل الاجتماعي منذ سنوات قليلة على مجموعة من المؤثرين المهتمّين بنشر العلم، ويبدو أنهم جيدون في ذلك إذ يجذبون عددا كبيرا من المتابعين، إلا أن القضيّة التي بحاجة إلى توضيح هي أنّ العلم في حدّ ذاته لا يعني شيئا إذا لم يكن لأسلوب التفكير العلمي تأثير على واقع معيشتنا، فماذا يعني معرفة قوانين نيوتن للحركة أو ازدواجية الجسيمات الأولية أو الروابط الكيميائية بين الذرات أو تركيب الحمض النووي مثلا إذا لم يكن هناك دافع يدعو إلى هذه المعرفة؟ لقد سمعنا كثيرا بل وتمّ تشجيعنا أيضا على مبدأ ‘العلم من أجل العلم’ والذي يمكن تتبّعه إلى عصر الحضارة اليونانية القديمة المُقسّمة إلى عبيد يعملون في المهام اليدوية الشاقة وأحرار أو أسياد ينشغلون بالتفكّر والتأمّل، بحيث كان الأسياد اليونانيين – الذين ابتكروا المنهج العلمي حسب ما يجادل بعض الباحثين – يعتبرون العلم رفاهيّة خاصة بهم وبطبقتهم الاجتماعية التي لا تحتاج إلى العمل بل وتزدريه. وبالرغم من أن الثورة العلمية الحديثة تخلصت من هذ المبدأ ذو النظرة الدونية للعمل، بل وعكست الآية تماما فاعتبرت العمل (التجربة) مقياسا لصحة وسلامة الفكر إلا أنه – هذا المبدأ – مازال يحتل موقعا مهما في مؤسساتنا التعليميّة.

لعل ما يجعل هذا المبدأ مستمرا ومتصدّرا لحدّ اليوم هو هالة القُدسيّة التي نُضفيها على العلم والمعرفة بشكل عام، أو هكذا نعتقد، رغم أن تاريخنا العلمي وإن كان مُساهما في دفع عجلة الحضارة البشرية ككل للأمام، ولكن لا يمكن مقارنته بالتقدم الهائل الذي أحدثته النهضة العلمية في أوربا في القرون الأخيرة. لقد انحصرت قدسية العلم في ثقافتنا وتراثنا في العلوم الدينية أكثر من غيرها، ولطالما تمّ النظر إلى العلم باعتباره وسيلة لكسب المزيد من الثواب أو التقرب من الله أو إعمار الأرض، وإن كان هذا الأخير غير واضح المعالِم تماما. بتعبير آخر، موقفنا من العلم – حتى اليوم – هو تبريرٌ أكثر من كونه حاجة للتفسير، فنحن نستخدم العلم لتبرير أحكام سابقة أكثر من استخدامنا له للحصول على تفسيرات أصيلة عن العالم من حولنا. أضف إلى ذلك عقدة النقص أو محاولة اللحاق بركب الحضارة الحديثة بمظاهرها التقنية والعمرانية دون التعرّض لسياقاتها وإرهاصاتها التاريخية، ولهذا ليس من الصعوبة بمكان أن تجد صاحب شهادة دكتوراة في تخصّص علمي ما ولكنه لا يختلف عن أي شخص أقل مرتبة علمية منه في أي قضية خارج تخصّصه، ولعله حتى في تخصصه لا يستوعب جوهر التفكير العلمي ويكون مستعدا لاستبعاده أو خلطه مع طرق تفكير أخرى.

إنّ المنهج العلمي لا يقتصر على معرفة الدوال الرياضيّة أو توصيل أسلاك الكهرباء أو خلط المواد الكيميائية في المختبر فحسب، فهو أسلوب تفكير حياتي يومي وفنٌ للعيش. فمنذ أن أكد ‘كوبرنيكوس’ نموذج الكون الذي مركزه الشمس وليس الأرض أسس بذلك ثورة حقيقية في طريقة اكتساب المعرفة، وما يبدو لنا اليوم طريقا طبيعيا كان حينئذ تحديا كبيرا للمؤسسات التي كانت تحتكر المعرفة على طريقتها ومصادرها الخاصة. لقد اعتبرت تلك المؤسسات الطريقة الجديدة هذه هرطقة تستوجب الردّ والعُنف والمحاكمة والتي راح ضحيتها الكثيرون. لقد وضعت هذه الطريقة الجديدة في التحقيق الكثير من المُسلمات والمعتقدات على المحك، وهدّدت بانتزاع السلطة من تلك المؤسسات عبر كشف وتحليل وفضح ما كان يُقدم على أنه مُحرم التفكير فيه أو سرّ مقدس لا يمكن للعقل البشري استيعابه. إنّ غياب مثل هذا السياق التاريخي بإمكانه أن يجعل العلم والمنهج العلمي خاويا وبعيدا عن الغاية الأساسية منه، ويضع له حدودا أو خطوطا حمراء غير مبررة.

التقنية بدورها كوسيلة لتحسين الحياة وتسهيلها، هي الأخرى، ليست هدفا مباشرا للعلم، بل أصبحت أصلا شبه مستقل يستفيد من العلم وقد يفيده بالمقابل أيضا. تاريخيا، كانت التقنية تمشي جنبا إلى جنب مع العلم ولكن بطريقة بطيئة، فالقفزات التقنية قبل الثورة العلمية الأوربية تكاد تكون محدودة وتفصل بينها قرون طويلة، ولكنّ الآن أصبحنا ننتج تقنيات حتى لو كنا لا نفهم الأسس العلمية الكامنة وراءها تماما، فكلنا يستخدم الكهرباء والأدوات المعتمدة عليها مثلا ولكن لا أحد يجزم أنه يفهم ماهية الإلكترونات في الواقع، وهذا التوجه الحديث للتقنية جعل من موضوع خدمتها للحياة للبشرية جدليّا، فهل الإنسان فعلا بحاجة إلى كل الأدوات والآلات التي يستخدمها اليوم؟ هل ما يقود التقنية اليوم هو الحاجة أم توجّهات ومصالح الشركات المُنتجة ومن يقفون وراءها؟ ولو سلّمنا جدلا بأن التقنية فعلا هي الهدف الأساسي من العلم، فما هي فائدة إرسال مركبات فضائية إلى القمر والمريخ مثلا أو لماذا يكون تصوير الثقوب السوداء لأول مرة إنجازا؟ أيُّ سهولة تُقدمها هذه الجهود التقنية لممارسة حياة البشر اليومية أو المستقبلية؟ هذه التساؤلات البسيطة تعيدنا إلى المربع الأول وهو أن التقنية والعلم (بالتالي) يعكسان أسلوبا وطريقا مستقلا في فهم العالم، طريقا بلا أحكام سابقة، كما يعكسان النظرة الجديدة للإنسان التي صاحبت وأسست هذا الطريق منذ البداية، وهي أنه يمتلك قوة واستقلالية وقدرة على فهم نفسه ومحيطه وقادر على استغلال موارد الطبيعة لصالحه، وذلك مقابل النظرة القديمة التي تجعل له حدودا ضيقة لا يستيطع تجاوزها وأنّ عليه التسليم إزاء ذلك.